اتفاقية التطبيع بين الإمارات وإسرائيل.. لم يكن مفاجئا لكنّه كان وقحا
لم يكن الإعلان عن اتفاقية تطبيع العلاقات، بين دولة الإمارات العربية ودولة الاحتلال مفاجئا؛ لكنه كان وقحا من حيث الشكل والتوقيت.
فكل من يتابع أخبار التطبيع في السنوات الاخيرة، يلحظ بشكل لا يخفى على أحد المحاولات الخليجية، وخاصة الإماراتية، المستمرة والعنيدة لكسر كل التابوهات، التي آمن بها العرب لعقود في علاقتهم بالقضية الفلسطينية، وأهمها "أنه لا يمكن تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال قبل حل القضية الفلسطينية بشكل عادل"، وهذا هو جوهر المبادرة العربية التي تبنتها الجامعة العربية في عام 2002، بعد تطوير مقترح سعودي حينها، ورغم أن دولة الاحتلال رفضت المبادرة، وقال شارون، رئيس وزراء الاحتلال الأسبق "إنّها لا تساوي الحبر الذي كُتبت به"، فإن العرب ظلوا متمسكين بها، وأبلغوا العدو مرارا "إن 22 دولة عربية جاهزة للتطبيع الكامل معهم، بمجرد إنجاز حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية".
دولة الإمارات، خاصة في السنوات الأخيرة، تحللت من كل القيم القومية والدينية والتاريخية للمنطقة، في سبيل أن تصنع لها مكانا على الخارطة الدولية، ولو على حساب شعوب المنطقة ومستقبلهم، فتحالفت مع كل القوى الرجعية والديكتاتورية في المنطقة لقمع تطلعات الشعوب بالحرية والكرامة، فكانت حاضرة وبقوة في كل ثورة مضادة، حتى لو كان ثمن ذلك ذبح الشعوب وسرقة مقدراتهم، كما يحصل في اليمن اليوم على سبيل المثال لا الحصر.
اجتهد حكام الإمارات لتسويق دولة الاحتلال في المنطقة ودمجها، وإن كان ذلك على حساب أمن المنطقة وحقوق الشعب الفلسطيني الثابتة، وبحجج واهية، كمواجهة "العدو المركزي" للعرب "إيران"، رغم أنّها في الخفاء تحافظ على علاقات قوية ومتجذرة مع إيران، وخاصة على المستوى الاقتصادي، وبوجود الحظر الدولي المفروض على إيران، كما لم تبذل أي جهد حقيقي لاسترداد جزرها الثلاث "المحتلة" من إيران.
حكام الإمارات يبررون فعلتهم الشنيعة بالحرص على الفلسطينيين ومصالحهم، فيدّعون أن هذا الاتفاق تم مقابل تأجيل دولة الاحتلال لضم الأراضي في الضفة الغربية إلى أجل غير محدود
ولعل أكثر الأحداث فجاجة في هذا السياق هو المشاركة العلنية في واشنطن في الإعلان عن خطة ترامب للسلام والرفاه في المنطقة، أو ما يسمى "صفقة القرن"، والتي أجمع الجميع على المستوى العربي والإسلامي والدولي، أنّها تعني تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء أي فرصة حقيقية لقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس.
الغريب في أمر هذه الاتفاقية أن حكام الإمارات يبررون فعلتهم الشنيعة بالحرص على الفلسطينيين ومصالحهم، فيدّعون أن هذا الاتفاق تم مقابل تأجيل دولة الاحتلال لضم الأراضي في الضفة الغربية إلى أجل غير محدود، وهذا بالضبط ما نفاه بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الاحتلال في مؤتمره الصحفي بالأمس، وأكّد أن "موضوع الضم لم يُصرف عنه النظر وإنما تم تعليقه بشكل مؤقت".
ثم إن الجميع يعلم أن حكومة الاحتلال قررت تأجيل تنفيذ خطة الضم بداية تموز/يوليو الماضي، لعدة أسباب، أهمها هو الموقف الفلسطيني الموحد إلى جانب الموقف الدولي وخاصة الأوروبي في رفض الخطة، عدا عن الموقف الأمريكي المضطرب داخليا، والخلاف الإسرائيلي الداخلي حول شكل وحجم الضم، ثم كيف يدعي الإماراتيون حرصهم على المصالح الفلسطينية، وهم لم يشاوروا أصحاب الأمر أنفسهم، الفلسطينيين، سواءً في بنود الاتفاق أو توقيت الإعلان عنه، فتفاجأت القيادة الفلسطينية الرسمية والفصائلية بالإعلان عن الاتفاق، وأعلنت رفضها المطلق له، بل وصفه بيان الرئاسة الفلسطينية "بالخيانة للقدس والأقصى والقضية الفلسطينية".
التطبيع مع العدو ليس مجرد اجتهاد سياسي، إنما هو تنصّل من كل الالتزامات القومية والإنسانية تجاه أعدل قضية في التاريخ الحديث وهي القضية الفلسطينية، التطبيع مع العدو هو فتح الباب واسعا له ليعبث بأمن ومقدرات دولنا وشعوبنا لخدمة مشروعه الاستعماري الاستيطاني "إسرائيل الكبرى"
كثيرة هي الأحداث في الأعوام الماضية التي كانت تهدف إلى الإعلان عن السياسات السرية لحكام الإمارات في علاقتهم الاستراتيجية مع دولة الاحتلال، وكانت هذه الأحداث متنوعة وتشمل كل مجالات الحياة الدينية والسياسية والاقتصادية والرياضية والفنية وغيرها. والغريب أن بعض هذه الأحداث كانت بدواعي الإنسانية وتعزيز السلام والتعايش بين الشعوب، كلَمِّ شمل أسرة يهودية يمنية افترقت لأكثر من 15 عاما، أو افتتاح أول كنيس يهودي أو معبد هندوسي، في الوقت الذي يُلاحق فيه نشطاء الرأي في الإمارات، حتى سجلت الدولة أسوأ مستويات انتهاك حقوق الإنسان على المستوى الدولي، وتذبّح آلاف الأسر اليمنية في وطنها وتسرق ثرواتها ويقسّم وطنها، وتعيق أي حل سياسي في ليبيا، من خلال دعم الجنرال المتقاعد المتمرد خليفة حفتر، وإن كان على حساب أرواح ووحدة ومستقبل الليبيين.
التطبيع مع العدو ليس مجرد اجتهاد سياسي، إنما هو تنصّل من كل الالتزامات القومية والإنسانية تجاه أعدل قضية في التاريخ الحديث وهي القضية الفلسطينية، التطبيع مع العدو هو فتح الباب واسعا له ليعبث بأمن ومقدرات دولنا وشعوبنا لخدمة مشروعه الاستعماري الاستيطاني "إسرائيل الكبرى"، خاصة أنه يملك القدرة على ذلك بما يتمتع به من إمكانيات ذاتية أو غطاء أمريكي مفتوح.
تجربة العرب عامة، والفلسطينيين خاصة، مع هذا العدو ومدى التزامه بالاتفاقيات ورغبته الحقيقية في السلام والتعايش على مدار عقود، ينبِّئنا بما هو قادم وما سيحل بِنَا من كوارث قومية ووطنية، ليبقى هو متربعا على عرش المنطقة، بعد تفرقتها واستنزاف قدراتها في معارك بينية عبثية.
لا يدرك حكام الإمارات أنهم يقفون على الجانب الخطأ من التاريخ، وإنّ هذه المحاولات البائسة لإطالة أمد دولة الاحتلال ستبوء بالفشل، وحينها لن ترحمهم شعوبهم ولا التاريخ. بالأمس بمجرد الإعلان عن هذه الاتفاقية "العار"، عبّر الآلاف من المواطنين والقوى السياسية وممثلي المجتمع المدني الخليجي، فضلا عن ملايين العرب والمسلمين، عن رفضهم القاطع لها وأنها لا تمثل الشعب الإماراتي، حتى أن بعض المصادر المقربة من حكام الإمارات، أكدوا أنّه لم يتم التشاور على المستوى الاتحادي بخصوصها، وإن أبو ظبي ودبي انفردتا بالقرار.
يجب على حكام الإمارات أن يعيدوا قراءة مادة التاريخ التي نعلمها لأطفالنا خاصة في فلسطين، حيث نعلمهم أنّه مر عليها الكثير من المستعمرين، ولكن لم يستقر فيها أحد، غير سكانها الأصليين. فلسطين ليست مجرد بقعة جغرافية؛ لكنها جزء أصيل من إرادة الأمة نحو الحرية والكرامة والاستقلال، فلسطين بمقدساتها الإسلامية والمسيحية جزء من عقيدة الأمّة، وعليه لن يتمكن المطبعون، مهما حاولوا ومهما استثمروا، أن يحرفوا بوصلة المنطقة عن العدو المركزي لها وهو "دولة الاحتلال" الصهيوني، وأنّه إلى الزوال عاجلا أم آجلا.
بقلم الدكتور باسم نعيم وزير الصحة الفلسطيني الأسبق وعضو مكتب العلاقات الدولية في حركة حماس
اكتب تعليقك