هل يمكن أن تجري الانتخابات الفلسطينية؟
بقلم الدكتور باسم نعيم
منذ اليوم الاول للانقسام الفلسطيني على إثر الانتخابات الفلسطينية في يناير ٢٠٠٦، حاول الفلسطينيون البحث عن مخرج من المازق الوطني الذي وُضعوا فيه، على أثر رفض نتائج الانتخابات. الكل محليا وإقليميًا ودوليا شهد أن العملية الانتخابية جرت بشكل ديموقراطي وقدر عالي من الحرية والنزاهة، ولكن للاسف الشديد، فان الدول التي شجعت الانتخابات ودعمت إجرائها سياسيا ولوجستيا ورقابة، وخاصة في الغرب، لم ترق لها النتائج، حيث فازت حماس باغلبية كبيرة تمكنها من تشكيل الحكومة والتاثير بشكل كبير على مجريات الامور داخل الاراضي الفلسطينية. وكانت حماس خاضت الانتخابات ببرنامج انتخابي يؤكد على حق الشعب الفلسطيني بالمقاومة بكافة اشكالها وعدم الاعتراف بدولة الاحتلال وضرورة محاربة الفساد المستشري في الموسسة الحكومية. وهنا من الجدير الإشارة الى ان حركة حماس شاركت في تلك الانتخابات ايماناً منها بالديموقراطية منهجاً راسخاً لادارة الشأن الفلسطيني والتداول السلمي على السلطة، ولازالت تؤكد في كل مرة وفِي كل محفل على ذلك، وتمارسه في كل فرصة تتاح لها داخل التنظيم وخارجه.
الولايات المتحدة وعلى لسان وزيرة خارجيتها في حينه، كونداليزا رايس، هددت الشعب الفلسطيني قبيل الانتخابات وحذرته من انتخاب اي تنظيم يمجد المقاومة ولا يعترف بحق "اسرائيل" في الوجود ولا يقبل بالاتفاقيات السابقة، وهذه الشروط سميت لاحقاً بشروط الرباعية. الامريكان استطاعوا فرض ارادتهم على المجتمع الدولي برمته، رغم رفض الكثيرين لهذه الشروط المجحفة، أو على الأقل اعتبارها معيقا لاي تقدم في حل الصراع. فرض المجتمع الدولي للاسف الحصار على الشعب الفلسطيني، استجابة للضغوط الامريكية، مما كان سببا في الازمة الوطنية التي نحياها اليوم وابرز تجلياتها الانقسام والمآسي الانسانية التي ترتبت عليه. لاحقا أدركت معظم الاطراف التي فرضت الحصار على شعبنا، وخاصة الاوروبين، أن رفض نتائج الانتخابات كان خطأً سياسياً فادحا وأنّه أدى الى تعقيد المشهد، بل إن المؤسسات الاممية اعتبرت الحصار غير قانوني وغير انساني ويجب رفعه فورا وبدون شروط. ولكن للاسف فان الجميع لم يتمكن من تجاوز الضغوطات الامريكية واضطروا لتطوير آليات مأسست الحصار وقننته وطنيا، مما جعل التراجع عن هذا الخطأ صعب ومعقد.
التقى الفلسطينيون في معظم عواصم الاقليم للحوار بحثا عن مخرج، فالتقوا مرارا في القاهرة والدوحة واسطنبول وموسكو وبيروت، حتى في صنعاء وداكار عاصمة السنغال. الاف الساعات من الحوار الثنائي والجماعي، مئات الاوراق والوثائق كتبت، عشرات الاتفاقيات وقعت، على أمل الخروج من المأزق الكبير الذي نعيشه وكان له انعكاسات خطيرة على قضيتنا الوطنية. الجميع حاول البحث عن مخارج تنهي الانقسام وتحقق الوحدة الوطنية بمعناها الشامل، ولكن للاسف باءت هذه الجهود بالفشل، رغم الاثمان العالية جدا التي دفعناها، ولا زلنا، على المستوى الوطني والانساني. قد يبحث كل طرف عن تفسير او تبرير لهذا الفشل، ولكن يقينا فإن العامل الخارجي كان هو السبب الرئيس لذلك، وهنا أقصد بالخارج، بشكل أساسي الاحتلال والامريكان، فالاحتلال كان المستفيد الاكبر من استمرار الانقسام وتشرذم الشعب الفلسطيني، ولذلك سخّروا كل أدواتهم، المحلية والدولية، لاحباط هذه الجهود. أمّا الامريكان، ففي إطار رؤيتهم المتماهية الى حد كبير مع الموقف الإسرائيلي لحل الصراع، والتي تجرد الفلسطينيين من معظم أوراق القوة وأدوات النضال من أجل الحرية والاستقلال، فقد صاغوا شروط الرباعية وفرضوا على البقية الالتزام بها وإلاّ عرضوا أنفسهم للعقوبة. اخبرني بعض المطلعين على أن حوارات القاهرة، بعيد إنتهاء الحرب المدمرة على قطاع غزة، في مارس ٢٠٠٩ والتي شاركت فيها كل الفصائل الفلسطينية وعلى مدار أسبوع كامل، وصلت الى وثيقة شاملة ومقبولة وطنيا لانهاء الانقسام وتحقيق الوحدة وإعادة بناء منظمة التحرير لتكون ممثلة للكل الفلسطيني. ولكن بعد عرضها على السيد محمود عباس للاعتماد، طلب أخذ موافقة الامريكان على ما جاء فيها، وكما هو متوقع رفض الامريكان الوثيقة جملة وتفصيلا، بعد عرضها عليهم، ورجع الجميع بخفي حنين، لنعيش سنوات جديدة من الالم والحسرة. وتكررت اللقاءات وتكررت المسرحية بشكل أو بآخر والنتيجة واحدة، "لا" كبيرة لاي توافق أو وحدة فلسطينية على قاعدة الحقوق الاصيلة لشعبنا الفلسطيني، والتي في مقدمتها عدم الاعتراف بشرعية الاحتلال وحقنا في مقاومته بكل السبل الممكنة كما كفلها القانون الدولي.
وبناءا عليه وللاجابة على سؤالنا الاساسي، هل يمكن ان تجري الانتخابات الفلسطينية المقبلة؟ نعم ممكن ولكن اذا توفرت الشروط التالية:
اولا: على القيادة الفلسطينية الرسمية أن تحسم خياراتها وترمي بثقل القرار أولاً على الشعب الفلسطيني وإرادته، وتحيّد البعد الخارجي وخاصةً الاسرائيلي والامريكي، أو على الأقل لا تجعله العامل الاساس لبناء إستراتيجياتها الوطنية.
ثانيا: على المجتمع الدولي أن ياخذ قراره بدعم واحترام العملية الديموقراطية برمتها، إجراءات ونتائج، وأن يعبر عن ذلك بلغة واضحة محدد لا تحتمل التأويل، فالديموقراطية لا تجزئ، ولا يصح ان نختار ديموقراطية تصلح للغرب حتى لو جاءت بعنصريين مثل ترامب، وديموقراطية لغيرهم من الشعوب، حتى لو عبرت عن ارادة حرة ونزيهة لهذه الشعوب.
ثالثا: على الامريكان أن يدركوا أن الاستمرار في محاولة فرض قيادة على الشعب الفلسطيني مرفوضة ولن يكتب لها النجاح، قيادة تتناسب مع معايير "إتفاقية أوسلو"، الاتفاقية التي فشلت في تحقيق أي تقدم أو استقرار سياسي، بل قوضت وتقوض أي فرصة مستقبلية لحل الصراع بشكل عادل ودائم. وما ذكرته السيدة هيلاري كلينتون في مذكراتها بأنهم (الامريكان) أخطأوا عندما سمحوا بإجراء الانتخابات في فلسطين عام ٢٠٠٦ دون ضمان نتائجها، يعكس عنصرية واستعلاء النخبة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة، والتي لم تنجز الا مزيد من الكوارث والمآسي حول العالم، وقللت كثيراً من فرص الامن والاستقرار على المستوى الدولي.
كل المحاولات التي جرت في السنوات الماضية، بالحصار والحروب، لتزييف إرادة المواطن الفلسطيني وإعادة تشكيل القيادة الفلسطينية، بناءا على حاجات الناس الانسانية ومقاسات الاحتلال الاسرائيلي باءت وستبوء بالفشل.
ويجب عليهم أن يدركوا جيدا أن الشعب الفلسطيني، عندما يختار قيادته، شعبٌ ناضج ويعي جيدا تعقيدات المعادلات الاقليمية والدولية ويعرف جيدا ما يريده ليبني مستقبلا افضل، مليء بالاستقرار والازدهار.
رابعاً: لا يجوز الحديث مجددا عن شروط الرباعية، لانها استنفذت أغراضها وانتهت صلاحيتها، رغم أنها معطوبة منذ إصدارها. فهل يعقل مطالبة الفلسطينيين بنبذ "العنف" وهم المعتدى عليهم ويدافعون عن أنفسهم وارضهم ومقدساتهم، ولا يطالب المعتدي بوقف ونبذ العنف في الوقت الذي يمتلك فيه كل انواع السلاح، بما فيها الاسلحة النووية، ويمارس ضم الاراضي والقتل والتهجير وهدم البيوت والحصار منهجا يوميا تحت سمع وبصر المجتمع الدولي. ألم يعتبر ممثل الولايات المتحدة الامريكية في الامم المتحدة في ستينيات القرن الماضي، أنّ "العنف" الذي يمارسه سكان "ناميبيا" ضد دولة الفصل العنصري في جنوب افريقيا مبرراً ومشروعاً، على اعتبار انه ردة فعل على العنف والعنصرية التي تمارسها حكومة جنوب افريقيا العنصرية، وأنّه دفاع عن النفس. ثم أي إتفاقيات سابقة يطالبون الفلسطينيون بقبولها واحترامها؟ تعاملت الحكومات الفلسطينية جميعها، بما فيها الحكومة التي شكلتها حركة حماس، مع هذه الاتفاقيات كامر واقع وادارت الشان العام في اطارها، ولم يمتنع أي منا كوزراء من التعاطي مع هذه الاتفاقيات لادارة الحياة اليومية لشعبنا واستغلال اي فرصة للتخفيف من معاناة شعبنا، حتى لو اضطرنا ذلك للتعامل مع الطرف الاخر أحياناً، ولكن الاهم هل لازالت هذه الاتفاقيات سارية المفعول بعد كل ما أقدم عليه الاحتلال من تجاوزات وانتهاكات وفِي مقدمتها إعادة إحتلال الضفة الغربية في عملية السور الواقي عام ٢٠٠٢ وبناء سور الفصل العنصري والتوسع الهائل في المستوطنات والتهام معظم أراضي الضفة الغربية، هل سيطالب الاحتلال مثلاً، بالتزامن، بالتراجع الى ما قبل ٢٨ سبتمبر ٢٠٠٠، أي قبل انطلاق الانتفاضة الثانية. أخيراً توافقت كل الفصائل الوطنية والاسلامية في إجتماع الامناء العامون في رام الله - بيروت في ٤ سبتمبر ٢٠٢٠ على برنامج الحد الأدنى وطنيا، ويقوم على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على حدود الرابع من يونيو/حزيران عام ١٩٦٧، والقدس المحتلة عاصمتها، وحل قضية اللاجئين وحقهم في العودة إلى ديارهم الذين هجروا منها على أساس القرار ١٩٤.
خامساً: القدس خط أحمر ولن يقبل أي مواطن فلسطيني، فضلا عن قائد فصيل أو تنظيم، إنتخابات بدون القدس، فالقدس هي العنوان الاساس للمعركة السياسية الراهنة.
نحن أمام فرصة ذهبية ليخرج الجميع من المأزق الراهن، لإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الفلسطينية، مما يمكننا من تجديد الشرعيات وتحصين القرار الفلسطيني وإعادة بناء المؤسسات، بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية، على أسس ديموقراطية، ولا يجوز تضييع هذه الفرصة، لإنّ تداعيات أي إنتكاسة جديدة ستكون خطيرة على الشعب والقضية الفلسطينية وفي مقدمتها تأبيد الانقسام، وعليه يجب العمل على تحصين هذه العملية إجرائيًا وقانونيا، بما يكفل إنتخابات حرة ونزيهة وشفافة، تعكس إرادة شعبنا وتفتح أمامه ابواب مستقبل أفضل.
المصدر: د. باسم نعيم رئيس مجلس العلاقات الدولية - فلسطين
اكتب تعليقك