مقال رأي حول قرار ترمب
ليست القدس كما كما يصفها القانون الدولي مجرد "مدينة محتلة" يطالب أهلها بها، وإلا لأغنى عنها غيرها وأمكنت المقايضة بها، أو ضاع حق أهلها فيها بالتقادم وحكم الأمر الواقع. وإنما القدس شجرة قداسة وبركة تحظى بدليلها من تعاليم السماء؛ ولذا فإنها لا تخضع للمساومات ولا البيع في أسواق السياسة ولا غيرها.
فلماذا يجترئ الرئيس الأميركي دونالد ترمب على الاعتراف بالقدس الشريف عاصمة لإسرائيل، متجاوزاً خمسين عاماً من الدبلوماسية الأميركية التي تجنبت الوقوع في هذه الغلطة، وغاضاً الطرف عن تحذيرات أوروبية ودولية -تصل إلى حد الإجماع- من هذا التهور؟!
تجاوز للحد الطبيعي:
حقيقة الأمر هي أن دونالد ترمب رجل أعمال أو تاجر بدرجة رئيس دولة، إذ تسيطر عليه عقلية السوق، وتحركه دواعي الربح، ويواجه المخاطر بعقلية التاجر، ويمارس السياسة بقواعد الاقتصاد وأخلاق الاقتصاد؛ وليس أي اقتصاد، بل اقتصاد السوق المتوحش المفتوح.
خاض ترمب -منذ وقت مبكر من حياته- عالم المال والأعمال، وامتلك شركات للقمار والعقارات والإنشاءات، وسلسلة متاجر ضخمة وملاعب لرياضة الجولف، وتاجر في الإعلام ومسابقات الجَمال، ثم تطلع إلى المنافسة على منصب رئيس الولايات المتحدة، حتى اقتنصه أخيراً من أفواه السباع، حسب التقليعة السائدة من تشوّف الناجحين في دنيا الاقتصاد إلى الخوض في بحر السياسة؛ ظناً منهم أن النجاح شيء واحد في كل حال.
وفي الحقيقة؛ ليس ترمب أول رجل أعمال يحط في المنصب الأميركي الكبير، بل سبقه إليه -منذ وقت ليس ببعيد- كل من جورج بوش الأب (1989- 1993) وابنه جورج دبليو بوش (2001- 2009) صاحبي التجارة الواسعة في عالم النفط.
إلا أن الرئيس الأميركي الحالي لم يسبق له قبل هذا ممارسة العمل السياسي، أو الإدارة السياسية لأي مدينة أو ولاية أو حزب سياسي أو حتى مكتب فرعي لحزب، كما أن سَمته التجاري ظهر واضحا على سلوكه -دون سلفَيه- في إدارة العمل السياسي، حتى قبل أن يكمل عاماً واحداً في البيت الأبيض.
وليس لنا أن نعيب على رجل مارس وظيفة ما لعشرات السنين أن تنعكس على إدارته للدولة؛ فهذا التأثير أمر طبيعي، إذ تنعكس أخلاق رجل الجيش وأستاذ الجامعة والأديب والرجل الحزبي ورجل الدين وشيخ القبيلة، على قراراته السياسية وممارسته لصلاحياته وأدائه لمهامه وتصرفه تجاه الآخرين حين يتولى مسؤولية سياسية.
إلا أن تحويل الدولة إلى سوق أو بنك، والعلاقات بين الدول والأحزاب إلى صفقات، والناس وأصواتهم الانتخابية إلى سلع، واعتبار شؤون الدولة كلها اقتصادا فحسب، هي عيوب قاتلة في الممارسة السياسية تلحق تشويها -قد لا يسهل علاجه- بالدولة التي تُدار بهذا الأسلوب.
وحجم الإشكالية هنا بحجم الولايات المتحدة؛ فقد عيب على الإسلاميين العرب مثلا أنهم يبرزون ذوي التخصصات الطبية والهندسية في إدارة جماعاتهم السياسية، مما أوقعهم في كثير من المآزق التي نرى بعضها الآن، لكننا نرى هذا العيب أضخم جداً في أميركا حين تنتخب لرئاستها رجل الأعمال ترمب، ولا يشفع لها في هذا أنها دولة كبيرة أو متقدمة؛ إذ إن وضع الرجل غير المؤهل في المناصب الخطيرة لا ينتج إلا نتائج كارثية تتولد عن تصرفاته وقراراته.
سوابق قبل القدس
منذ البداية؛ سوّق ترمب نفسه لدى الناخب الأميركي على أنه قادم بخبرة اقتصادية ثقيلة، وأنه سيوظف خبرته ودرايته بالشؤون الاقتصادية والمالية لمساعدة مواطنيه على تحسين مستواهم المعيشي وتوفير فرص عمل لهم، ودارت معظم وعوده حينئذ على فتح أبواب تدر على الولايات المتحدة أموالاً طائلة، وإغلاق أبواب أخرى تهدر المال وتضيع الفرص الاقتصادية على الأميركيين.
بل تطرق الأمر إلى الإدارة الأميركية بالكامل حين قال أثناء حملته الانتخابية: "إننا نحتاج إلى أناس في واشنطن يعرفون كيف يبرمون الصفقات"؛ لذا اختار بعض وزرائه البارزين (مثل وزراء التجارة والخارجية والخزانة) فضلاً عن مستشاريه من بين رجال الأعمال، وبعضهم الآخر من رجال الجيش المطواعين؛ ترجمة لهذه الرؤية.
ولو أثبتت هيئات التحقيق الأميركية على ترمب ورجاله تهم التآمر مع روسيا للتأثير في نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، وهي الأزمة الأخطر التي يواجهها ترمب؛ فإن هذا لا يقدم لنا فقط صورة أخرى للصفقات التي حكمت مسار الرجل في عالم السياسة منذ وقت مبكر، بل يقدم أيضًا نموذجا صارخا للأساليب الملتوية التي هاجرت معه من نشاطه التجاري إلى ممارسته للسياسة، وهو ما سيظهر بعد قليل.
قال مايكل كرانش ومارك فيشر في كتابهما "ترمب بلا قناع.. رحلة من الطموح والغرور والمال والنفوذ": "كثيراً ما تبجح ترمب بقدرته على دفع أقل ما يمكن دفعه إلى الحكومة، وهي عادة وصفها بأنها الطريقة الأميركية"! وهذه الطريقة (الأميركية) طبقها الرجل سياسياً حين عمل على إطالة أمد الأزمات (مثل الأزمة الخليجية) حتى يجني مزيداً من الأرباح والصفقات، في حين أنه يستطيع بالضغوط التي يملكها أن ينهي المشكلة في أسرع وقت.
وفي تطبيق أقدم لهذه "الطريقة الأميركية" التي تعني اربح أكثر ما تستطيع وادفع أقل ما يمكن؛ ابتزّ ترمب حلفاءه في لقائه الشهير بالرياض مع ممثلي أكثر من خمسين دولة مسلمة في مايو/أيار الماضي، حيث أبرم اتفاقيات اقتصادية (استثمارات وصفقات أسلحة) مع السعودية تبلغ قيمتها حوالي خمسمئة مليار دولار.
يحدث هذا رغم أن إلحاق الضرر بأصدقاء أميركا في المنطقة -وهو مما يترتب حتماً على هذه الصفقات- ليس من مصلحة واشنطن، لكن الرأسمالي المخضرم يريد أولاً قبض الأجرة على خدمات سابقة قام بها الجيش الأميركي في المنطقة، ويريد ثانياً علاج مشكلات الاقتصاد الأميركي من جيوب الآخرين.
وفي تعليق آخر للمؤلفينِ المذكورين على مبالغات ترمب في تقدير حجم ثروته؛ قالا: "في تجارة العقارات ذات المجازفة الكبيرة والمردود العالي تعتمد قدرة ترمب على عقد الصفقات وضمان التمويل لمشروعاته على المستثمرين الذين يثقون بسمعته وبثروته". وبالمثل يمكن أن تلاحظ بسهولة أن وهم القوة المطلقة للولايات المتحدة يسيطر على عقل ترمب سياسياً، كما في تعاطيه مع كوريا الشمالية.
ولا يعنينا هنا استقصاء الأمثلة والحالات بقدر ما يعنينا التأكيد على طبيعة النموذج الذي يقدمه ترمب في إدارة الدولة التي يرأسها، ويكفي أن نشير أخيراً إلى أنه بشّر كثيراً -في حملته وبعد فوزه- بتوفير مزيد من فرص العمل لمواطنيه، وهذا يدل على أن تصوره للدولة يشبه في حقيقته تصوره للشركة والمشروع التجاري الذي يوفر فرص عمل.
والحقيقة أنه ليست الدولة فقط هي التي لا تقبل الابتسار إلى هذا الحد، بل إن اقتصاد الدولة نفسه لا يمكن اختصاره في مجرد توفير "فرص عمل" للمواطنين.
القدس على الطريق
كل هذه المواقف التي اختارها ترمب لنفسه وهو يمارس السياسة، تقوي الاعتقاد بأن الخطوة الأخيرة التي اتخذها بشأن مدينة القدس الشريف، باعترافه بها عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي وأمره بالإعداد لنقل السفارة الأميركية إليها؛ هي الأخرى صفقة لها مقابل كبير يلائم خطورة القرار.
صحيح أن الرجل كان قد وعد في حملته الانتخابية بأن يتخذ هذا القرار إن قرر الشعب الأميركي اختياره رئيساً للدولة، لكن كثيرين قبله ممن سكنوا البيت الأبيض كانوا قد وعدوا باتخاذ هذه الخطوة أيضًا، لكنهم لمّا عاينوا خطورتها تراجعوا عنها، ودعموا إسرائيل بعيدا عن فتح هذا الجرح الغائر.
وصحيح كذلك أن المنطقة تمر بأسوأ مراحلها التاريخية منذ احتلال القدس عام 1967، إلا أن الاندفاع في هذه السبيل سيعني -حتى في هذه الظروف- سقوط الحلول الأميركية ونهاية دور واشنطن في فلسطين، كما سيؤجج احتجاجات كبيرة في أنحاء العالم، وقد يشعل نار المعارضة للأنظمة الموالية للولايات المتحدة ما دامت تحتفظ بعلاقات طبيعية معها، رغم تصرفها المشين تجاه القدس.
إن الأحداث التي تجري حاليا حول القدس ستؤدي -بتفاقمها المتوقع- إلى إعادة قضية فلسطين إلى صدر المشهد العربي والإسلامي، مما سيفتح وعي الأجيال الشابة والصغيرة على قضيتهم هذه من جديد، وهو أمر لا تخشاه الولايات المتحدة وإسرائيل وحدهما، بل تشاركهما في ذلك أكثر الأنظمة العربية القائمة حالياً؛ لأن أي جرح عربي فتحته انفتحت معه جراح الأخ والجار.
كل هذا لا أظنه يغيب عن حسابات ترمب الذي دعا أصدقاءه في تل أبيب إلى عدم إظهار الفرح العارم بالقرار، مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأنه يدفع قراره هذا الخطير ثمناً لشيء كبير، وهل هناك بالنسبة له شيء أكبر من الاحتفاظ بالمكتب البيضوي والكرسي الذي يهتز الآن بشدة من تحته؟! والقوة والتزييف الإعلامي ومعونة الوكلاء في المنطقة كفيلة بعد ذلك بامتصاص الغضب الذي سيتجه هابطاً مع الوقت حتى يتلاشى.
إن الاعتراف الأميركي بالقدس الشريف عاصمة لإسرائيل لا يرضي الحلفاء في تل أبيب وحدها، ولكنه يرضي كذلك اليمينيين الأميركيين وجماعات الضغط الصهيوينة في أنحاء الولايات المتحدة، وكلاهما معوَّل عليه مهم بالنسبة لترمب وهو يخوض حرب البقاء في منصبه بأي ثمن.
وترمب في كل حال لا يهمه أن تكون القدس مدينة مقدسة أو غير مقدسة، ولا يهمه كذلك أن تكون من حق الفلسطينيين أو الإسرائيليين؛ المهم أن تكون ثمناً مقنعاً يوصله إلى ما يريده؛ خاصة أنه رجل يؤمن بما يشبه النسبية المطلقة.
فقد نقل عنه مؤلفاً كتاب "ترمب بلا قناع" قوله حينما سأله بعض الصحفيين عن تناقض الأرقام التي يعبر بها عن مقدار ثروته: "حتى مشاعري الخاصة حول أين يقع العالم مثلاً، وإلى أين يمضي العالم؛ هذا يمكن أن يتغير بسرعة من يوم إلى آخر"!
الكاتب والباحث: نبيل الغولي
المصدر: الجزيرة.نت